إعادة إعمار غزة: هل يمكن للبناء أن يعيد الحياة؟
الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025 01:44 م
زينب سليمان
صورة تعبيرية
مرّت ثلاث سنوات على توقف الحرب، لكن غزة لم تتوقف عن النزف. فالصمت الذي حلّ محلّ أصوات القصف لم يكن سلاما بقدر ما كان فراغا ثقيلا، امتلأ بأنقاض المنازل وذكريات الفقد. في شوارع كانت تضجّ بالحياة، يقف اليوم ركام صامت يختزن قصص آلاف العائلات التي فقدت كل شيء. وبينما تتوالى خطط إعادة الإعمار، يظل السؤال الإنساني الأكثر إلحاحاً: هل يمكن لإعادة بناء الحجر أن تُعيد الحياة لمن فقدوا الأمان، والبيت، والذاكرة؟
تشير التقديرات المشتركة للبنك الدولي والأمم المتحدة إلى أن تكلفة إعادة إعمار غزة والتعافي فيها تبلغ نحو 53.2 مليار دولار أمريكي. من هذا المبلغ، تُقدَّر احتياجات المرحلة الأولى، الممتدة على ثلاث سنوات فقط، بحوالي 20 مليار دولار، في محاولة لإعادة الحد الأدنى من مقومات العيش. غير أن حجم الدمار يجعل هذه الأرقام، على ضخامتها، مجرد بداية لمسار طويل ومعقّد.
يُعد قطاع الإسكان الأكثر تضررا، إذ يحتاج وحده إلى أكثر من 15 مليار دولار، في ظل تضرر أو تدمير ما يقارب 70% من الوحدات السكنية في بعض مناطق القطاع. هذه النسبة لا تعني أرقاما مجردة، بل مئات آلاف الأسر التي فقدت مأواها واضطرت للنزوح، أحيانا مرات متكررة. أما البنية التحتية العامة من طرق ومياه وكهرباء وصرف صحي فتُقدَّر خسائرها بأكثر من 30 مليار دولار، ما انعكس مباشرة على قدرة السكان على الحصول على المياه النظيفة، والكهرباء، والخدمات الأساسية.
في قطاع التعليم، تضررت أو توقفت عن العمل أكثر من 90% من المدارس، ما حرم جيلا كاملا من حقه في التعليم الآمن. وفي القطاع الصحي، تكبّدت المستشفيات والمراكز الطبية خسائر هائلة نتيجة التدمير المباشر ونقص الكوادر والمعدات، في وقت ارتفعت فيه الحاجة إلى الرعاية الطبية والنفسية بشكل غير مسبوق.
لكن الأرقام، مهما بلغت دقتها، لا تختزل المأساة الإنسانية. فقد خلّفت الحرب عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، وتسببت في نزوح أكثر من 1.5 مليون فلسطيني، بينما يعيش نحو 80% من سكان غزة تحت خط الفقر، وفق تقديرات الأمم المتحدة. خلف هذه النسب، تقف أسر فقدت أبناءها، وأطفال لم يعودوا ينامون دون خوف، وكبار سنّ فقدوا بيوتهم التي شُيّدت على مدى عقود.
وعلى أرض الواقع، لا تتوقف التحديات عند حدود الدمار. فعملية إعادة الإعمار تواجه عراقيل بنيوية معقدة، تبدأ من القيود المفروضة على إدخال مواد البناء والمعدات الثقيلة، ولا تنتهي عند تعقيدات الملكية العقارية وفقدان الوثائق الرسمية. وتشير تقارير أممية إلى وجود أكثر من 50 مليون طن من الركام، قد تستغرق إزالته وحدها نحو 21 عامًا، بتكلفة تتجاوز 1.2 مليار دولار، في ظل مخاطر الذخائر غير المنفجرة والتلوث البيئي. هذه التحديات تجعل من الإعمار عملية شاقة، بطيئة، ومثقلة بالمخاطر.
غير أن التحدي الأعمق لا يكمن في إزالة الركام أو إعادة بناء الجدران، بل في ترميم ما تهشّم داخل الإنسان. فإعادة الإعمار، إن اقتصر معناها على الإسمنت والخرسانة، ستفشل في إعادة الشعور بالأمان. أمّ فقدت أبناءها تحت الأنقاض لن ترى في الجدران الجديدة تعويضا عن الفقد، وطفل شاهد مدرسته تُقصف قد يحتاج سنوات طويلة ليستعيد ثقته بالعالم، ورجل مسنّ يقف أمام بقايا منزله الذي بناه قبل أربعين عامًا، قد لا يجد في إعادة البناء سوى محاولة متأخرة لاحتواء الذاكرة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مقاربة مختلفة لإعادة إعمار غزة، مقاربة تضع الإنسان في قلب العملية. فالإعمار الحقيقي يجب أن يجمع بين إعادة بناء المساكن والبنية التحتية، وتوفير دعم نفسي واجتماعي طويل الأمد، خاصة للأطفال والنساء الناجين من الصدمات. كما يجب أن يشمل برامج تشغيل وتأهيل مهني تعيد للناس شعورهم بالقدرة على الإنتاج والاستقلال، بدل الاكتفاء بالمساعدات المؤقتة.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية توفير حلول سكن انتقالية آمنة خلال فترة الإعمار، مثل المساكن المؤقتة أو الإيجارات المدعومة، على أن تكون قريبة من الخدمات الأساسية، لتجنّب عزل المجتمعات المتضررة. كما يتطلب الأمر إنشاء آليات قانونية عادلة وسريعة لمعالجة قضايا الملكية والتعويض، بما يضمن حق العودة وعدم ضياع حقوق الأسر التي فقدت وثائقها تحت الركام.
ولا يمكن لأي خطة أن تنجح دون حوكمة شفافة وتنسيق دولي فعّال. فإعادة إعمار غزة تتطلب إطار مؤسسي يضم الجهات الفلسطينية المعنية، والمنظمات الدولية، والمانحين، والمجتمع المدني، مع آليات واضحة للمساءلة والمتابعة، تضمن عدالة التوزيع وتمنع تسييس المساعدات. كما تحتاج العملية إلى خارطة طريق زمنية واقعية، تبدأ بإزالة الأنقاض واستعادة الخدمات الأساسية، ثم الانتقال إلى بناء المساكن الدائمة وإعادة تشغيل الاقتصاد المحلي، وصولا إلى مرحلة التنمية المستدامة وخلق فرص العمل طويلة الأمد.
في المحصلة، تمثل إعادة إعمار غزة أكثر من مشروع بناء؛ إنها محاولة لإعادة الحياة إلى مكان أنهكته الخسارة. صحيح أن الإعمار لن يعيد من رحلوا، ولن يمحو آثار الخوف من الذاكرة الجماعية، لكنه قد يكون الخطوة الأولى نحو مستقبل أقل قسوة. فالمال قادر على إعادة تشييد الجدران، لكن الإرادة الإنسانية وحدها قادرة على إعادة بناء الإنسان، ومنح غزة فرصة حقيقية للحياة بعد الأنقاض.
نحو خطة شاملة: من إعادة الإعمار إلى إحياء الحياة
يرى خبراء التنمية أن نجاح إعمار غزة لا يُقاس بعدد المباني المشيّدة، بل بقدرتها على إعادة الكرامة الإنسانية والاستقرار المجتمعي. وعليه، يجب أن تقوم خطة الإعمار على مسارات متكاملة:
أولًا: الإنسان في قلب الإعمار
• برامج دعم نفسي واجتماعي واسعة، خصوصًا للأطفال والنساء الناجين من الصدمات.
• آليات إنصاف اجتماعي للأسر التي فقدت معيلها أو سكنها.
• إعطاء أولوية للفئات الأكثر هشاشة: ذوو الإعاقة، كبار السن، والأسر النازحة.
ثانياً: استرجاع المساكن وتنظيم التوزيع
• إعادة بناء المنازل المدمرة كليا، وتأهيل المتضرر جزئيا وفق جداول زمنية واضحة.
• إنشاء لجان فنية وقانونية لمعالجة ملف الملكية العقارية والتعويض.
• اعتماد نظام أولويات عادل يستند إلى درجة الضرر والهشاشة الاجتماعية.
ثالثا: السكن خلال فترة الإعمار
• توفير حلول سكن انتقالية آمنة (مساكن مسبقة الصنع، إيجارات مدعومة).
• ضمان قرب مواقع السكن المؤقت من الخدمات الأساسية.
• إشراك المجتمع المحلي في التخطيط لتجنب العزل الاجتماعي.
رابعا: الحوكمة والتمويل
• إنشاء منصة وطنية–دولية تضم الجهات الفلسطينية المعنية، الأمم المتحدة، المانحين، والقطاع الخاص.
• اعتماد آليات شفافة للتمويل والمتابعة والمساءلة.
• مزيج تمويلي يجمع بين المنح الدولية، القروض الميسّرة، والشراكات الاستثمارية.
خامسا: خارطة طريق زمنية
• المرحلة الأولى (0–2 سنوات): إزالة الأنقاض، استعادة الخدمات الأساسية، الإسكان الانتقالي.
• المرحلة الثانية (2–5 سنوات): بناء المساكن الدائمة، إعادة تشغيل الاقتصاد المحلي، تطوير البنية التحتية.
• المرحلة الثالثة (5–10 سنوات وما بعد): تنمية شاملة، خلق فرص عمل مستدامة، ودمج غزة في الاقتصاد الإقليمي.
نسخ الرابط للمقال
أخبار تهمك
خطر الجوع يهدد الأميركيين مع دخول الإغلاق الحكومي شهره الثاني
الأحد، 02 نوفمبر 2025 07:19 م
«دي بي ورلد» تستثمر 5 مليارات دولار في تطوير البنية التحتية في الهند
الأحد، 02 نوفمبر 2025 07:13 م
عملية سطو تاريخية في اللوفر… اللصوص يسرقون تاج الإمبراطورة ويتركون الأدلة خلفهم
الثلاثاء، 21 أكتوبر 2025 04:41 ص
انتعاش وول ستريت: ارتفاع جماعي يقوده سهم أبل وتفاؤل المستثمرين بتقارير الأرباح والتضخ
الثلاثاء، 21 أكتوبر 2025 04:18 ص
ترامب يلوح بقيود على صادرات بوينغ إلى الصين في تصعيد جديد للحرب التجارية
السبت، 11 أكتوبر 2025 10:25 ص
عودة الحرب التجارية.. إس آند بي 500 يخسر 1.2 تريليون دولار خلال 40 دقيقة
السبت، 11 أكتوبر 2025 10:16 ص